فصل: ذهاب الزوج إلى زوجاته ودعوتهن إليه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


حكم القسامة

4 - اختلف الفقهاء في حكم القسامة‏:‏

فذهب جمهور الفقهاء إلى أن القسامة مشروعة وأنه يثبت بها القصاص أو الدّية إذا لم تقترن الدعوى ببيّنة أو إقرار، ووجد اللوث‏.‏

ودليل مشروعيتها‏:‏ ما روي عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه «أن عبد الله بن سهل ومحيِّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيِّصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود فقال‏:‏ أنتم والله قتلتموه، قالوا‏:‏ والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ثمّ أقبل هو وأخوه حُويِّصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل، فذهب محيِّصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيِّصة‏:‏ كبّر كبّر - يريد السّن - فتكلم حويِّصة ثم تكلم محيِّصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إمّا أن يدُوا صاحبكم وإمّا أن يؤذنوا بحرب، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويِّصة ومحيِّصة وعبد الرحمن‏:‏ أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فتحلف لكم يهود‏؟‏ قالوا‏:‏ ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل‏:‏ فلقد ركَضتني منها ناقة حمراء»‏.‏

وبما ورد عن أبي سلمة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية»، وزاد في رواية‏:‏ «وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل ادَّعوه على اليهود»‏.‏

وذهب الحكم بن عيينة، وأبو قلابة، وإبراهيم بن علية، وسليمان بن يسار، ومسلم بن خالد، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه، إلى عدم الأخذ بالقسامة، وعدم وجوب العمل بها‏;‏ لأنها مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها‏.‏

ومن هذه الأصول‏:‏ أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعاً أو شاهد حسّاً، وإذا كان كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القاتل، بل قد يكونون في بلد، والقاتل في بلد آخر، واستدلّوا على ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه»‏.‏

حكمة مشروعية القسامة

5 - شرعت القسامة لصيانة الدّماء وعدم إهدارها، حتى لا يهدر دم في الإسلام أو يطل، وكي لا يفلت مجرم من العقاب، قال عليّ لعمر رضي الله عنهما فيمن مات من زحام يوم الجمعة، أو في الطواف‏:‏ يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم، إن علمت قاتله، وإلا فأعطه ديته من بيت المال‏.‏

فالشريعة الإسلامية تحرص أشد الحرص على حفظ الدّماء وصيانتها وعدم إهدارها، ولما كان القتل يكثر بينما تقلّ الشهادة عليه‏;‏ لأن القاتل يتحرى بالقتل مواضع الخلوات، جعلت القسامة حفظاً للدّماء‏.‏

شروط القسامة

الشرط الأول‏:‏ أن يكون هناك لوث‏:‏

6 - سبق تعريف اللوث في الألفاظ ذات الصّلة، وهو شرط عند الجمهور‏.‏

والتفصيل في مصطلح ‏(‏لوث‏)‏‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن يكون المدعى عليه مكلفاً‏:‏

7 - يشترط أن يكون المتهم بالقتل مكلفاً حتى تصح الدعوى بالقسامة حيث لا قسامة على الصبيّ والمجنون، هذا عند الشافعية والحنابلة‏.‏

أما غيرهم فعلى عدم اشتراطه، وأن المكلف وغيره سواء في القسامة‏.‏

الشرط الثالث‏:‏ أن يكون المدعي مكلفاً‏:‏

8 - يشترط لصحة الدعوى أن يكون المدعي مكلفاً، فلا تسمع دعوى صبيّ ولا مجنون، بل يدعي لهما الوليّ أو يوقف إلى كمالهما، ولو كان صبيّاً أو مجنوناً وقت القتل كاملاً مكلفاً عند الدعوى سمعت‏;‏ لأنه قد يعلم الحال بالتسامع، وله أن يحلف إذا عرف ما يحلف عليه بإقرار الجاني، أو بسماع ممن يثق به‏.‏

الشرط الرابع‏:‏ أن يكون المدعى عليه معيناً‏:‏

9 - قال جمهور الفقهاء‏:‏ إنه لو كانت الدعوى على أهل مدينة، أو محلة، أو واحد غير معين، أو جماعة بغير أعيانها لا تجب القسامة، فإن ادعى القتل على شخص أو جماعة معينين، فهي مسموعة، إذا ذكرهم للقاضي وطلب إحضارهم أجابه إلى طلبه، وإن ذكر جماعةً لا يتصور اجتماعهم على القتل لا يبالي بقوله، فإنه دعوى محال‏.‏

ولو قال‏:‏ قتل أبي أحد هذين، أو واحد من هؤلاء العشرة، وطلب من القاضي أن يسألهم، ويحلّف كل واحد منهم فهل يجيبه‏؟‏ وجهان‏:‏ أصحّهما لا، ولو قال في دعواه على حاضرين قتله أحدهم، أو قتله هذا أو هذا، وطلب تحليفهم لم يحلّفهم القاضي على الأصحّ، لإبهام المدعى عليه، فلا تسمع هذه الدعوى، وذلك مثل لو ادعى وديعةً، أو ديناً على أحد الرجلين أو الرّجال، لم يسمع‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ إن تعيين المدعى عليه لا يشرط للقسامة، بل إنه إذا عين المدعى عليه فقد اختلفوا، ففي ظاهر الرّواية‏:‏ لا تسقط القسامة، كما لو لم يعيّن‏;‏ لأن الشارع أوجب القسامة ابتداءً على أهل المحلة، فتعيينه واحداً منهم لا ينافي ما شرعه الشارع، فتثبت القسامة والدّية على أهل المحلة‏.‏

وفي رواية عن أبي يوسف في غير رواية الأصول‏:‏ أن القسامة والدّية تسقط عن الباقين من أهل المحلة، ويكلف الوليّ بالبيّنة، وإلا حلف المدعى عليه يميناً واحداً‏.‏

الشرط الخامس‏:‏ ألا تتناقض دعوى المدعي‏:‏

10 - يشترط لوجوب القسامة ألا تتناقض دعوى المدعين، فإن قال القتيل قبل موته‏:‏ قتلني فلان عمداً، وقالوا‏:‏ بل قتله خطأً، أو العكس، فإنه لا قسامة لهم وبطل حقّهم، وليس لهم أن يرجعوا إلى قول الميّت بعد ذلك، ولا يجابون لذلك‏;‏ لأنهم كذبوا أنفسهم‏.‏

وأضاف الشافعية‏:‏ أنه لو ادعى على شخص انفراده بالقتل، ثم ادعى على آخر أنه شريكه، أو أنه القاتل منفرداً لم تسمع الدعوى الثانية لمناقضتها الدعوى الأولى وتكذيبها، ولو ادعى عمداً ووصفه بغيره من خطأ أو شبه عمد أو عكسه بطل الوصف، ولم يبطل أصل دعوى القتل في الأظهر‏;‏ لأنه قد يظنّ ما ليس بعمد عمداً، أو عكسه فيعتمد تفسيره‏.‏

الشرط السادس‏:‏ أن يكون أولياء القتيل ذكوراً مكلفين‏:‏

11 - عند المالكية‏:‏ إن كانت الدعوى بالقتل عمداً، فيشترط فيمن يحلف الأيمان أن يكون ذكراً مكلفاً، وأما النّساء فلا يحلفن في العمد، وأما إن كانت الدعوى بالقتل خطأً، فإن الذي يحلف أيمان القسامة هو من يرث المقتول ذكوراً كانوا أو إناثاً‏.‏

وعند الشافعية لو كان للقتيل ورثة وزّعت الأيمان بحسب الإرث، وجبر المنكسر، ولا فرق في ذلك بين الذّكور والإناث‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنه يشترط أن يكون أولياء القتيل ذكوراً مكلفين، ولا يقدح غيبة بعضهم أو نكوله، فللذكر الحاضر المكلف أن يحلف بقسطه ويأخذ نصيبه من الدّية، وكذلك لمن قدم من الخارج، أو كلّف أن يحلف بقسط نصيبه ويأخذ قدر نصيبه من الدّية، ودليلهم في هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقسم خمسون رجلاً منكم وتستحقّون دم صاحبكم»‏;‏ ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد، فلا تسمع من النّساء كالشهادة‏;‏ ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل، ولا مدخل للنّساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمناً، فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها، فإن في ذلك لا يثبت بشاهد ويمين، ولا بشهادة رجل وامرأتين، وإن كان مقصودها المال‏.‏

الشرط السابع‏:‏ وصف القتل في دعوى القسامة‏:‏

12 - ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون دعوى القسامة مفصلةً‏.‏

الشرط الثامن‏:‏ أن يكون بالقتيل أثر قتل‏:‏

13 - اشترط بعض الفقهاء أن يكون في القتيل أثر قتل من جراحة أو أثر ضرب أو خنق، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا قسامة فيه ولا دية‏;‏ لأنه إذا لم يكن به أثر القتل فالظاهر أنه مات حتف أنفه فلا يجب به شيء‏.‏

وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد، قال الحنفية‏:‏ فإذا وجد والدم يخرج من فمه أو أنفه أو دبره أو ذكره لا شيء فيه‏;‏ لأن الدم يخرج من هذه المواضع عادةً بدون الضرب، وإنما بسبب القيء أو الرّعاف ونحوهما، فلا يعرف كونه قتيلاً‏.‏

وإن كان الدم يخرج من عينه، أو أذنه ففيه القسامة والدّية‏;‏ لأن الدم لا يخرج من هذه المواضع عادةً فكان خروجه بسبب القتل، وعلى هذا لا يشترط الحنفية اللوث، وإنما يكفي أن توجد الجثة في محلة وبها أثر القتل، واعتبر المالكية وجود أثر القتل سبباً من أسباب اللوث‏.‏ وذهب الشافعية والحنابلة - وهو المذهب - إلى أنه لا يشترط في القسامة ظهور دم ولا جرح‏;‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل بقتيلهم أثر أم لا‏؟‏ ولأن القتل يحصل بالخنق وعصر البيضة ونحوهما، وعند الشافعية إذا ظهر أثره قام مقام الدم، فلو لم يوجد أثر أصلاً فلا قسامة على الصحيح في الروضة وأصلها، وإن قال في المهمات‏:‏ إن المذهب المنصوص وقول الجمهور بثبوت القسامة‏.‏

الشرط التاسع‏:‏ أن يوجد القتيل في محلّ مملوك لأحد أو في يد أحد‏:‏

14 - ذهب الحنفية إلى أنه يشترط في القسامة أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل ملكاً لأحد أو في يد أحد، فإن لم يكن ملكاً لأحد ولا في يد أحد أصلاً فلا قسامة فيه ولا دية، وإن كان التصرّف في المكان لعامة المسلمين لا لواحد منهم ولا لجماعة يحصون لا تجب القسامة وتجب الدّية‏.‏

وإنما كان كذلك لأن القسامة إنما تجب بترك الحفظ اللازم‏.‏

وعلى ذلك لو وجد القتيل في فلاة من الأرض ليس بملك لأحد فإنه لا قسامة فيه ولا دية إذا كان بحيث لا يسمع الصوت من الأمصار ولا من قرية، فإن كان بحيث يسمع تجب القسامة على أقرب المواضع إليه‏.‏

وذهب المالكية والشافعية والقاضي من الحنابلة إلى أن وجود المقتول في قرية قوم أو دارهم إذا كان يخالطهم غيرهم فيها لا يعتبر لوثاً يوجب القسامة، وأما إن لم يكن يدخل قريتهم سواهم، ووجد قتيل من غيرهم فيها، فإنه يكون لوثاً يوجب القسامة، كما في قضية عبد الله بن سهل رضي الله عنه، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل فيه القسامة لابني عمّه حويِّصة ومحيِّصة وأخيه عبد الرحمن، لأن خيبر ما كان يخالط اليهود فيها غيرهم‏.‏

ونص أحمد في رواية منها أنه لا يشترط مع العداوة ألا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدوّ‏.‏ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار هل كان في خيبر غير اليهود أم لا‏؟‏ مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها‏.‏

الشرط العاشر‏:‏ إنكار المدعى عليه‏:‏

15 - ذهب إلى هذا الشرط الحنفية‏;‏ لأن اليمين وظيفة المنكر، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

«واليمين على من أنكر» فجعل جنس اليمين على المنكر، فينفي وجوبها على غير المنكر‏.‏

الشرط الحادي عشر‏:‏ الإسلام‏:‏

16 - وهو شرط عند المالكية في المقتول فلا تصحّ القسامة إذا كان ذمّيّاً، فإذا قلنا بعدم القسامة في القتيل الكافر، فإن ثبت أن المسلم قتله بشاهدين فإنه يغرم ديته في العمد من ماله، ومع العاقلة في القتل الخطأ، وإن لم يوجد إلا شاهد، فإن وليه يحلف يميناً واحدةً ويأخذ ديته، ويضرب الجاني مائةً في العمد ويحبس سنةً‏.‏

أما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة، فقد أثبتوا القسامة لغير المسلم إذا كان ذمّيّاً‏;‏ لأن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم إلا ما نص عليه بدليل‏;‏ ولأن دم الذّمّيّ مصون في دار الإسلام لذمته، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من آذى ذمّيّاً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»‏.‏

كيفية القسامة

17 - اختلف العلماء في كيفية القسامة على مذهبين‏:‏

المذهب الأول‏:‏ لجمهور الفقهاء وهم المالكية والشافعية والحنابلة وربيعة، والليث، وأبو الزّناد فقالوا‏:‏ إن الأيمان في القسامة توجه إلى المدعين، فيكلفون حلفها ليثبت مدعاهم ويحكم لهم به، فإن نكلوا عنها وجّهت الأيمان إلى المدعى عليهم، فيحلف أولياء القتيل خمسين يميناً، ويستحبّ أن يستظهر الحالف ألفاظ اليمين حتى تكون اليمين مؤكدةً فيقول‏:‏ وألله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور‏.‏‏.‏‏.‏

ويشترط أن تكون اليمين باتةً قاطعةً في ارتكاب المتهم الجريمة بنفسه أو بالاشتراك مع غيره، وأن يبيّن ما إذا كان الجاني قد تعمد القتل أم لا فيقول‏:‏ وألله إن فلاناً ابن فلان قتل فلاناً منفرداً بقتله ما شركه غيره‏.‏

ويشترط عند بعض المالكية أن تكون الأيمان متواليةً، فلا تفرق على أيام أو أوقات‏;‏ لأن للموالاة أثراً في الزجر والردع‏.‏

ولا يشترط عند الشافعية على المذهب والحنابلة موالاتها‏;‏ لأن الأيمان من جنس الحجج، والحجج يجوز تفريقها كما لو شهد الشّهود متفرّقين، فإن حلفوا ثبت مدعاهم، وحكم لهم إما بالقصاص أو الدّية على الخلاف في موجب القسامة، فإذا لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرئ، فيقول‏:‏ وألله ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا تسببت في موته‏.‏

فإن لم يحلف المدعون، ولم يرضوا بيمين المدعى عليه برئ المتهمون، وكانت دية القتيل في بيت المال عند الحنابلة خلافاً للمالكية والشافعية، وإن نكل المدعى عليهم عن اليمين ردت الأيمان عند الشافعية على المدعين، فإن حلفوا عوقب المدعى عليهم، وإن لم يحلفوا لا شيء لهم‏.‏

وعند المالكية من نكل من المدعى عليهم حبس حتى يحلف أو يموت في السّجن، وقيل‏:‏ يجلد مائةً ويحبس عاماً، ولا يحبس عليها عند الحنابلة كسائر الأيمان‏.‏

واستدل الجمهور لمذهبهم هذا بما روى سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه‏:‏

«أن عبد الله بن سهل ومُحًيِّصَة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيّصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتى يهود فقال‏:‏ أنتم والله قتلتموه قالوا‏:‏ والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويّصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول فذهب محيّصة يتكلم - وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيّصة كبّر كبّر، يريد السّن، فتكلم حويّصة، ثم تكلم محيّصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك، فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة وعبد الرحمن‏:‏ أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم‏؟‏ قالوا لا، قال‏:‏ فتحلف لكم يهود، قالوا ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار قال سهل‏:‏ لقد ركَضتني منها ناقة حمراء»‏.‏

فقد وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم اليمين أولاً إلى المدعين حينما سألهم قائلاً‏:‏ أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم‏؟‏ فلو لم تكن اليمين مشروعةً في حقّهم ابتداءً ما وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏

المذهب الثاني‏:‏ للحنفية والشعبيّ والثوريّ والنخعيّ، فقد قالوا بتوجيه تلك الأيمان إلى المدعى عليهم ابتداءً، فإن حلفوا لزم أهل المحلة الدّية، وهذا مرويّ من قضاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏.‏

واستدلّوا بما رواه البخاريّ في صحيحه عن سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار زعم «أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها، فوجدوا أحدهم قتيلاً وقالوا للذي وجد فيهم قد قتلتم صاحبنا، قالوا ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، فانطلقوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلاً، فقال‏:‏ الكبر الكبر، فقال لهم تأتوني بالبيّنة على من قتله‏؟‏ قالوا ما لنا بيّنة، قال‏:‏ فيحلفون، قالوا لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه فوداه مائةً من إبل الصدقة»‏.‏

دل هذا الحديث على أن أول ما يطلب في دعوى القسامة كغيرها من سائر الدعاوى هو البيّنة من جهة المدعي، فإن لم يكن ثم بيّنة للمدعي وجّهت الأيمان الخمسون الخاصة بدعوى القسامة إلى المدعى عليهم، كما نص الحديث على ذلك، فإن حلفوا برئوا وانتهت الخصومة، ولكن الأنصار أولياء الدم لم يقبلوا أن يحلف لهم اليهود لكفرهم وجرأتهم على الكذب، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته لأهله من عنده كي لا يهدر دم مسلم‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ إذا نكل من وجبت عليه القسامة من أهل المحلة حبس حتى يقر أو يحلف، وكذا إن نكل جميع المحلفين‏;‏ لأن اليمين في القسامة مقصودة بنفسها، وليست وسيلةً لتحصيل غيرها، بمعنى أن اليمين في القسامة يجمع بينها وبين الدّية، فإذا حلف المحلفون لم تسقط الدّية عنهم، بخلاف اليمين في دعوى الأموال، فإذا حلف المدعى عليه في دعوى المال برئ وسقط المال الذي أراده المدعي، لهذا فإن من نكل حبس حتى يقر أو يحلف‏.‏

والحبس عند النّكول إنما يكون في دعوى القتل العمد، أما في الخطأ فيقضى بالدّية على عاقلتهم ولا يحبسون‏;‏ لأن موجب القتل الخطأ المال فيقضى به عند النّكول‏.‏

ودليلهم في هذا ما روي عن الحارث بن الأزمع أنه قال لسيّدنا عمر رضي الله عنه‏:‏ أنبذل أيماننا وأموالنا‏؟‏ فقال نعم‏.‏

من توجه إليهم القسامة

18 - لا خلاف بين جمهور الفقهاء في أن أيمان القسامة توجه إلى الرّجال الأحرار البالغين العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له، كما لا خلاف بينهم في عدم توجّهها إلى الصّبيان والمجانين‏.‏

وإنما الخلاف بينهم في توجيهها إلى النّساء أو غير الوارثين من العصبة‏.‏

وقد فرق المالكية بين كون القتل عمداً، وبين كونه خطأً، واشترطوا في القتل العمد الذّكورة والعصوبة والعدد‏.‏

ومعنى ذلك أن يحلف ورثة المجنيّ عليه إذا طلبوا القصاص أو الدّية، وتوزع الأيمان على العصبة، ولا يحلف في العمد أقلّ من رجلين‏;‏ لأن النّساء لا يحلفن في العمد لعدم شهادتهن فيه فإن انفردن عن رجلين صار المقتول كمن لا وارث له، فتردّ الأيمان على المدعى عليه‏.‏ ويحلف النّساء مع الرّجال إذا كان القتل خطأً بخلاف العمد، لانفراد الرّجال به، وتوزع الأيمان على قدر مواريثهم، فإن لم يوجد في الخطأ إلا امرأة واحدة، فإنها تحلف الأيمان كلها وتأخذ حظها من الدّية، ويسقط ما على الجاني من الدّية لتعذّر الحلف من جهة بيت المال‏.‏

وإذا كسرت اليمين يكمل على ذي الأكثر من الكسور ولو أقلهم نصيباً من غيره، كابن وبنت على الابن ثلاثة وثلاثون يميناً وثلث وعلى البنت ستة عشر وثلثان فيجبر كسر اليمين على البنت لأن كسر يمينها أكثر من كسر يمين الابن، وإن كانت البنت أقل نصيباً فتحلف سبعة عشر يميناً فإن تساوت الكسور جبر كلّ واحد كسره، كثلاثة بنين فعلى كلّ واحد منهم ستة عشر وثلثان فتكمل على كلّ، فيحلف كلّ منهم سبعة عشر يميناً‏.‏

جاء في المدونة‏:‏ قلت‏:‏ وإنما يحلف ولاة الدم في الخطأ على قدر مواريثهم من الميّت في قول مالك، قال‏:‏ نعم، قلت‏:‏ فهل يقسم النّساء في قتل العمد في قول مالك‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلت‏:‏ فهل يقسم النّساء في القتل الخطأ في قول مالك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ يحلف كلّ وارث بالغ عاقل، رجلاً كان أو امرأةً في دعوى القسامة بالقتل، عمداً كان أو خطأً أو شبه عمد‏;‏ لأن القسامة عندهم يمين في الدعوى، فتشرع في حقّ النّساء كسائر الدعاوى‏.‏

قال الشافعيّ‏:‏ فإذا كان للقتيل وارثان فامتنع أحدهما من القسامة لم يمنع ذلك الآخر من أن يقسم خمسين يميناً، ويستحقّ نصيبه من الميراث، وتوزع الأيمان على الورثة بقدر حصصهم من الدّية على فرائض الله تعالى‏.‏

فإذا كان المقتول بلا وارث سقطت القسامة والدّية، إلا إذا ادعى أحد المسلمين القتل على معين، فإن للإمام أن ينصبه للحلف في القسامة في هذه الحالة، ويستحق بيت المال الدّية، وإن نكل فقد اختلف الشافعية على وجهين، وجه يسقط القسامة والدّية، والوجه الآخر يوجب حبسه حتى يقر أو يحلف‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرّجال وسقط حكم النّساء، وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون، أو كان فيهم حاضرون وغائبون لا تثبت القسامة حتى يحضر الغائب، وكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبيّ‏;‏ لأن الحق لا يثبت إلا ببيّنة كاملة، والبيّنة أيمان الأولياء كلّهم، والأيمان لا تدخلها النّيابة‏.‏

وذهب القاضي من الحنابلة إلى أن القتل إذا كان عمداً لا يحلف الكبير حتى يبلغ الصغير، ولا الحاضر حتى يحضر الغائب‏;‏ لأن الواجب بالعمد هو القصاص، ومن شرطه عندهم مطالبة جميع أولياء المقتول به‏.‏

أما إذا كان القتل غير عمد، فأجاز قسامة الكبير الحاضر دون اشتراط بلوغ الصغير، وحضور الغائب‏;‏ لأن ما يجب بقسامتهم هو الدّية، فيستحقّ كلّ منهم قسطه منها‏.‏

وعلى ذلك يحلف أولياء المجنيّ عليه - وهم ورثته - وتوزع الأيمان كسهام التركة، ويبدأ بالذّكور، وتردّ القسامة على المدعى عليه إن لم يكن للمقتول إلا النّساء، وكذا إذا نكل المدعي فيحلف المدعى عليه وتبرأ ذمته من الدّية، فإن لم يحلف وجبت الدّية عليه، وإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم وجبت الدّية على بيت المال، قياساً على من قتل في زحام ولم يعرف قاتله كقتيل في الطواف أو في جمعة‏.‏

والحنفية يوجبون القسامة على المدعى عليه دون المدعي، وبناءً عليه يختار الوليّ خمسين رجلاً من المحلة التي وجد فيها القتيل ويحلّفهم، وله أن يختار الصالحين أو الفسقة، كما يحقّ له اختيار الشّبان والشّيوخ، ويكون الاختيار من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل، وفي ظاهر الرّواية تكون الدّية على عواقلهم، أي عواقل كلّ من في المحلة‏.‏

وقد اختلفوا على قولين فيما لو خص الوليّ قاتلاً معيناً من أهل المحلة‏.‏

القول الأول‏:‏ يوجب القسامة على خمسين من أهل المحلة‏;‏ لأن القسامة لا تسقط عنهم إذا لم تكن للوليّ بيّنة تدين القاتل المخصص، قال السرخسيّ‏:‏ وإن ادعى أهل القتيل على بعض أهل المحلة الذين وجد القتيل بين أظهرهم فقالوا‏:‏ قتله فلان عمداً أو خطأً، لم يبطل هذا حقه، وفيه القسامة والدّية‏;‏ لأنهم ذكروا ما كان معلوماً لنا بطريق الظاهر، وهو أن القاتل واحد من أهل المحلة، ولكنا لا نعلم ذلك حقيقةً‏.‏

القول الثاني‏:‏ رواه ابن المبارك عن أبي حنيفة‏:‏ أنه أسقط القسامة عن أهل المحلة، لأن دعوى الوليّ على واحد منهم بعينه، يكون إبراءً لأهل المحلة عن القسامة في القتيل الذي لا يعرف قاتله، فإذا زعم الوليّ أنه يعرف القاتل منهم بعينه، صار مبرئاً لهم عن القسامة وذلك صحيح منه، فإن أقام الوليّ شاهدين من غير أهل المحلة على ذلك الرجل، فقد أثبت عليه القتل بالحجة، فيقضى عليه بموجبه، وإن أقام شاهدين من أهل المحلة عليه بذلك لا تقبل شهادتهما‏;‏ لأن أهل المحلة خصوم في هذه الحادثة ما بقيت القسامة‏.‏

وتسقط القسامة عن المحلة التي وجد فيها القتيل إذا ادعى الوليّ القتل على رجل آخر من غير المحلة التي وجد فيها القتيل، ولا تسمع الدعوى إن لم تكن للوليّ بيّنة، للتناقض بين الإبراء والاتّهام، وإذا اتهمت المحلة قاتلاً معيناً فيها أو في غيرها كلّفت بإحضار البيّنة، فإن أحضرت البيّنة ووافق الوليّ حكم عليه بالقصاص في العمد، والدّية في الخطأ، قال الكاسانيّ‏:‏ ولو ادعى أهل تلك المحلة على رجل منهم أو من غيرهم تصحّ دعواهم، فإن أقاموا البيّنة على ذلك الرجل يجب القصاص في العمد، والدّية في الخطأ إن وافقهم الأولياء في الدعوى على ذلك الرجل، وإن لم يوافقوهم في الدعوى عليه لا يجب عليه شيء‏;‏ لأن الأولياء قد أبرءوه حيث أنكروا وجود القتل منه، ولا يجب على أهل المحلة أيضاً شيء‏;‏ لأنهم أثبتوا القتل على غيرهم، وإن لم يقم لهم البيّنة وحلف ذلك الرجل، تجب القسامة على أهل المحلة‏.‏

وإذا وجد قتيل في محلة وكان أهلها مسلمين وبينهم ذمّيّ، فلا تجب القسامة عليه لأن تدبير الملك والمحافظة عليه من قبل المسلمين، ولا يزاحمهم الذّمّيّ، لأنه تابع، فكان حكمه حكم النّساء، أما إذا كان القتل في قرية لأهل الذّمة، فقد وجبت القسامة والدّية عليهم، لأنهم مسئولون عن تدبير ملكهم‏.‏

أما إذا كان هذا الحادث في زماننا هذا فإنها تجب على المسلم والذّمّيّ‏;‏ لأن الحنفية يوجبون القسامة على جميع من في المحلة التي اشترك فيها المسلمون والذّمّيّون، فتجب القسامة والدّية عليهم بالتساوي، إلا أن المسلمين تتحمل عواقلهم الدّية، والذّمّيّ تجب الدّية في ماله إن لم تكن له عاقلة‏.‏

وقد استدل السرخسيّ على هذا الحكم بقصة الرجل المقتول من قبل اليهود في خيبر، إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة عليهم، قال السرخسيّ‏:‏ إذا وجد القتيل في قرية أصلها لقوم شتى، فيهم المسلم والكافر، فالقسامة على أهل القرية المسلم منهم والكافر فيه سواء‏;‏ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب القسامة على أهل القرية ‏(‏خيبر‏)‏ وكانوا من اليهود، ثم يعرض عليهم الدّية، فما أصاب المسلمين من ذلك فعلى عواقلهم، وما أصاب أهل الذّمة، فإن كانت لهم معاقل فعليهم وإلا ففي أموالهم، وتجب القسامة على الأحرار البالغين‏;‏ لأنهم أهل النّصرة، أما الصبيّ والمجنون فلا قسامة عليهما‏;‏ لأن الصبي ليس من أهل النّصرة، وقول المجنون ليس صحيحاً، فلا قسامة عليهما، كذلك المرأة لا تشترك في القسامة والدّية إذا كان القتيل في غير ملكها، وعليها القسامة والدّية على عاقلتها إذا كان القتل في ملكها، وهذا عن أبي حنيفة ومحمد‏;‏ لأنها مسئولة عن تدبير ملكها، لأن سبب وجوب الدّية على المالك هو الملك مع أهلية القسامة، وقد وجدا في حقّها، أما الملك فثابت لها، وأما الأهلية فلأن القسامة يمين وأنها من أهل اليمين، ألا ترى أنها تستحلف في سائر الحقوق، ومعنى النّصرة يراعى وجوده في الجملة لا في كلّ فرد، كالمشقة في السفر‏.‏

أما بالنّسبة للحاضر والغائب‏:‏ فإنهم سواء في القسامة على ظاهر الرّواية، خلافاً لأبي يوسف الذي يرى أن القسامة على الحاضر فقط دون الغائب‏;‏ لأنه ليس مسئولاً عن تدبير المحلة أثناء غيابه‏.‏

الأحكام المترتّبة على القسامة

19 - لا خلاف بين الفقهاء في حجّية القسامة، ووجوب الدّية على عواقل المدعى عليهم إذا كان القتل خطأً، وإنما الخلاف بينهم فيما يجب بها إذا كان القتل المدعى به عمداً‏.‏

فذهب المالكية والشافعيّ في القديم والحنابلة إلى وجوب القود، وبه قال الزّهريّ وربيعة وأبو ثور وغيرهم‏.‏

ويرى الحنفية والشافعية في الجديد وجوب الدّية وعدم وجوب القصاص، وهذا مرويّ عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهم رضي الله عنهم، وبه قال الأوزاعيّ والثوريّ‏.‏

واستدل القائلون على وجوب القود بالقسامة بأدلة منها ما جاء في قصة عبد الله بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه وذكروا الحديث وفيه‏:‏ «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة وعبد الرحمن أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا»‏.‏

ومما يؤيّد هذا ما رواه أبو سلمة عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه في الجاهلية، وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أناس من الأنصار من بني حارثة في قتيل ادعوه على اليهود»، فإضافة قسامة الجاهلية إلى الدم دليل على أنه كان يحكم بها بالقصاص‏.‏

وأما أدلة القائلين بعدم القود بالقسامة، فما روي عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة‏:‏ أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه‏:‏ «أن عبد الله بن سهل ومحيّصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيّصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود فقال‏:‏ أنتم وألله قتلتموه، قالوا‏:‏ وألله ما قتلناه فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويّصة وهو أكبر منه، وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيّصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيّصة‏:‏ كبّر كبّر - يريد السّن - فتكلم حويّصة، ثم تكلم محيّصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك فكتبوا إنا وألله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة وعبد الرحمن‏:‏ أتحلفون وتستحقّون دم صاحبكم‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فتحلف لكم يهود‏؟‏ قالوا‏:‏ ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار فقال سهل‏:‏ فلقد ركضتني منها ناقة حمراء»‏.‏

وروي عن أبي قلابة «أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أبرز سريره يوماً للناس، ثم أذن لهم، فدخلوا، فقال‏:‏ ما تقولون في القسامة‏؟‏ قالوا‏:‏ نقول القسامة القود بها حقّ، وقد أقاد بها الخلفاء، قال لي‏:‏ ما تقول يا أبا قلابة، ونصبني للناس، فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى ولم يروه أكنت ترجمه‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلت‏:‏ أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق أكنت تقطعه ولم يروه‏؟‏ قال‏:‏ لا، قلت‏:‏ فوألله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قطّ إلا في إحدى ثلاث خصال‏:‏ رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ»‏.‏ الحديث‏.‏

وقال الكاسانيّ‏:‏ ولنا ما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله‏:‏ إنّي وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اجمع منهم خمسين فيحلفون بالله ما قتلوه ولا علموا له قاتلاً، فقال‏:‏ يا رسول الله ليس لي من أخي إلا هذا‏؟‏ فقال‏:‏ بل لك مائة من الإبل»، فدل على وجوب القسامة على المدعى عليهم - وهم أهل المحلة - مع وجوب الدّية عليهم، ولم يذكر القصاص في الحديث، بل قصره الرسول صلى الله عليه وسلم على دفع مائة من الإبل‏.‏

ولأن الشرع ألحق أهل المحلة التي وجد القتيل بها بالقتلة في وجوب الدّية، لأنه يلزمهم حفظ محلتهم وصيانتها من النوائب والقتل، فكان وقوع القتل بمحلتهم تقصيراً منهم عن هذه الصّيانة وحفظها‏.‏

مبطلات القسامة

20 - تبطل القسامة - عند الحنفية - بالإبراء صراحةً أو دلالةً‏.‏

أما الإبراء الصريح‏:‏ فهو التصريح بلفظ الإبراء وما يجري مجراه كقوله‏:‏ أبرأت، أو أسقطت، أو عفوت ونحو ذلك‏.‏ لأن ركن الإبراء صدر ممن هو من أهل الإبراء في محلّ قابل للبراءة، فيصحّ‏.‏

وأما الإبراء الضّمنيّ ‏"‏ دلالةً ‏"‏ فهو أن يدعي وليّ القتيل على رجل من غير أهل المحلة أنه قتل القتيل، فيبرأ أهل المحلة من القسامة والدّية‏;‏ لأن ظهور القتيل في المحلة لم يدل على أن هذا المدعى عليه قاتل، فإقدام الوليّ على الدعوى عليه يكون نفياً للقتل عن أهل المحلة فيتضمن براءتهم عن القسامة‏.‏

كما تبطل القسامة بإقرار رجل على نفسه أنه القاتل، فلو جاء رجل فقال‏:‏ ما قتله هذا المدعى عليه، بل أنا قتلته، فكذبه الوليّ، لم تبطل دعواه، وله القسامة، ولا يلزمه ردّ الدّية إن كان قبضها، ولا يلزم المقر شيء، وإن صدقه الوليّ أو طالبه بموجب القتل لزمه ردّ ما أخذه، وبطلت دعواه على الأول، وفي استحقاقه مطالبة المقرّ قولان‏.‏

وكذلك تسقط القسامة بقيام البيّنة على أن القاتل غير هذا، كأن أقام المدعى عليه بيّنةً أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه إليه في يوم واحد فإنه تبطل دعوى القسامة، وإن قالت البيّنة‏:‏ نشهد أن فلاناً لم يقتله لم تقبل الشهادة‏;‏ لأنها نفي مجرد، وإن قالا‏:‏ ما قتله فلان، بل فلان، سمعت‏;‏ لأنها شهادة إثبات يتضمن النفي‏.‏

وإذا بطلت القسامة لأحد الأمور التي ذكرناها، وجب على المدعي أن يرد ما أخذه من الدّية‏;‏ لأنه لا حق له فيما أخذه، فوجب عليه ردّه‏.‏

قَسَم

انظر‏:‏ أيمان‏.‏

قَسْم بين الزوجات

التعريف

1 - القَسْم - بفتح القاف وسكون السّين - لغةً‏:‏ الفرز والتفريق، يقال‏:‏ قسمت الشيء قَسْماً‏:‏ فرزته أجزاءً، والقِسْم - بكسر القاف وسكون السّين - الاسم ثم أطلق على الحصة والنصيب، والقَسَم - بفتح القاف والسّين - اليمين‏.‏

وفي الاصطلاح قال الجرجانيّ‏:‏ قسمة الزوج‏:‏ بيتوتته بالتسوية بين النّساء، أو كما قال البهوتيّ‏:‏ هو توزيع الزمان على زوجاته إن كن ثنتين فأكثر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - العَدْل بين الزوجات‏:‏

2 - من معاني العدل في اللّغة‏:‏ القصد في الأمور والاستقامة، وهو خلاف الجور، يقال‏:‏ عدل في أمره عدْلاً وعدالةً ومعدِلةً‏:‏ استقام، وعدل في حكمه‏:‏ حكم بالعدل‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ التسوية بين الزوجات في حقوقهن من القسم والنفقة والكسوة‏.‏

والقسم بين الزوجات أثر من آثار العدل ولوازمه‏.‏

ب - العشرة بالمعروف‏:‏

3 - العشرة اسم من المعاشرة، وهي في اللّغة المخالطة‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ ما يكون بين الزوجين من الألفة والانضمام‏.‏

والقسم بين الزوجات من المعاشرة بالمعروف‏.‏

ج - البيتوتة‏:‏

4 - البيتوتة في اللّغة مصدر ‏"‏ بات ‏"‏ وهي في الأعمّ الأغلب بمعنى فعل الفعل بالليل، يقال‏:‏ بات يفعل كذا أي فعله بالليل، ولا يكون إلا مع سهر الليل، وعليه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالذينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً‏}‏‏.‏

وقد تأتي نادراً بمعنى نام ليلاً‏.‏

وقد تأتي بات بمعنى صار، يقال‏:‏ بات بموضع كذا أي صار به، سواء كان في ليل أو نهار، وعلى هذا المعنى قول الفقهاء‏:‏ بات عند امرأته ليلةً أي صار عندها سواء حصل معه نوم أم لا‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

والبيتوتة هي عماد القسم بين الزوجات في الغالب الأعمّ‏.‏

الحكم التكليفيّ

5 - ذهب الحنفية والشافعية إلى استحباب القسم بين الزوجات، وأوجبه المالكية والحنابلة وقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الرجل - إن كان له أكثر من زوجة - أن يعدل في القسم بين زوجاته، وأن يسوّي بينهن فيه‏;‏ لأن ذلك من المعاشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏، وليس مع عدم التسوية في القسم بين الزوجات معاشرة لهن بالمعروف، ولما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط»، وللاتّباع والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في قَسْمه بين أزواجه وعدله بينهن فقد كان صلى الله عليه وسلم على غاية من العدل في ذلك، قال الشافعيّ‏:‏ بلغنا «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم فيعدل»‏.‏‏.‏‏.‏ وأنه «كان يطاف به محمولاً في مرضه على نسائه حتى حللنه»‏.‏

وقالوا‏:‏ أن من كان له أكثر من زوجة فبات عند واحدة لزمه المبيت عند من بقي منهن‏.‏‏.‏ تسويةً بينهن‏.‏

وصرح بعض فقهاء الشافعية بأن لزوم المبيت عند بقية الزوجات إن بات عند إحداهن يكون على الفور، لأنه حقّ لزم وهو معرض للسّقوط بالموت، فوجب على الزوج الخروج منه ما أمكنه، ويعصي بتأخيره‏.‏

وعقب عليه الشبراملسي - الشافعيّ - بأنه لو تركه كان كبيرةً أخذاً من الخبر السابق‏.‏

ونص الشافعية على أن الواجب على الزوج إذا كان له أكثر من زوجة هو العدل بينهن في القسم إن قسم، وله أن يعرض عنهن جميعاً إلا أنه يستحبّ أن لا يعطّلهن، واستثنوا من جواز الإعراض عن الزوجات ابتداءً أو بعد نوبة أو أكثر ما لو حدث ما يمنع هذا الإعراض، كأن ظلمها ثم بانت منه، فإنه يجب عليه القضاء على الراجح بطريقه الشرعيّ وهو عودها إلى عصمته‏.‏

ما يتحقق به العدل في القسم

6 - ذهب الفقهاء إلى أنه يجب على الزوج العدل بين زوجتيه أو زوجاته في حقوقهن من القسم والنفقة والكسوة والسّكنى، وهو التسوية بينهن في ذلك، والأصل فيه قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً‏}‏ عقيب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ‏}‏، ندب الله تعالى إلى نكاح الواحدة عند خوف ترك العدل في الزّيادة، وإنما يخاف على ترك الواجب، فدل على أن العدل بينهن في القسم والنفقة واجب، وإليه أشار في آخر الآية

بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏،أي تجوروا، والجور حرام فكان العدل واجباً ضرورةً‏;‏ ولأن العدل مأمور به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ‏}‏ على العموم والإطلاق إلا ما خص أو قيّد بدليل‏;‏ ولأن النّساء رعية الزوج، فإنه يحفظهن وينفق عليهن، وكلّ راع مأمور بالعدل في رعيته‏.‏

والعدل الواجب في القسم يكون فيما يملكه الزوج ويقدر عليه من البيتوتة والتأنيس ونحو ذلك، أما ما لا يملكه الزوج ولا يقدر عليه كالوطء ودواعيه، وكالميل القلبيّ والمحبة‏.‏‏.‏ فإنه لا يجب على الزوج العدل بين الزوجات في ذلك‏;‏ لأنه مبنيّ على النشاط للجماع أو دواعيه والشهوة، وهو ما لا يملك توجيهه ولا يقدر عليه، وكذلك الحكم بالنّسبة للميل القلبيّ والحبّ في القلوب والنّفوس فهو غير مقدور على توجيهه، وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ يعني في الحبّ والجماع، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويعدل ثم يقول‏:‏ اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني المحبة وميل القلب‏;‏ لأن القلوب بيد الله تعالى يصرّفها كيف شاء‏.‏

ونص الحنفية والشافعية والحنابلة على أنه يستحبّ للزوج أن يسوّي بين زوجاته في جميع الاستمتاعات من الوطء والقبلة ونحوهما لأنه أكمل في العدل بينهن، وليحصنهن عن الاشتهاء للزّنا والميل إلى الفاحشة، واقتداءً في العدل بينهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روي «أنه كان يسوّي بين نسائه حتى في القُبَل»‏.‏

ونص المالكية على أن الزوج يترك في الوطء لطبيعته في كلّ حال إلا لقصد إضرار لإحدى الزوجات بعدم الوطء - سواء تضررت بالفعل أم لا - ككفّه عن وطئها مع ميل طبعه إليه وهو عندها لتتوفر لذته لزوجته الأخرى، فيجب عليه ترك الكفّ‏;‏ لأنه إضرار لا يحلّ‏.‏

ونقل ابن عابدين عن بعض أهل العلم أن الزوج إن ترك الوطء لعدم الداعية والانتشار عذر، وإن تركه مع الداعية إليه لكن داعيته إلى الضرة أقوى فهو مما يدخل تحت قدرته‏.‏

7- وإذا قام الزوج بالواجب من النفقة والكسوة لكلّ واحدة من زوجاته، فهل يجوز له بعد ذلك أن يفضّل إحداهن عن الأخرى في ذلك، أم يجب عليه أن يسوّي بينهن في العطاء فيما زاد على الواجب من ذلك كما وجبت عليه التسوية في أصل الواجب‏؟‏ اختلف الفقهاء في ذلك‏:‏

فذهب الشافعية والحنابلة وهو الأظهر عند المالكية إلى أن الزوج إن أقام لكلّ واحدة من زوجاته ما يجب لها، فلا حرج عليه أن يوسّع على من شاء منهن بما شاء، ونقل ابن قدامة عن أحمد في الرجل له امرأتان قال‏:‏ له أن يفضّل إحداهما على الأخرى في النفقة والشهوات والكسوة إذا كانت الأخرى كفايةً، ويشتري لهذه أرفع من ثوب هذه وتكون تلك في كفاية، وهذا لأن التسوية في هذا كلّه تشقّ، فلو وجب لم يمكنه القيام به إلا بحرج، فسقط وجوبه، كالتسوية في الوطء‏.‏ لكنهم قالوا‏:‏ إن الأولى أن يسوّي الرجل بين زوجاته في ذلك، وعلل بعضهم ذلك بأنه للخروج من خلاف من أوجبه‏.‏

وقال ابن نافع‏:‏ يجب أن يعدل الزوج بين زوجاته فيما يعطي من ماله بعد إقامته لكلّ واحدة منهن ما يجب لها‏.‏

ونص الحنفية على وجوب التسوية بين الزوجات في النفقة على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حال الزوج، أما على قول من يرى أن النفقة تقدر بحسب حالهما فلا تجب التسوية وهو المفتى به، فلا تجب التسوية بين الزوجات في النفقة لأن إحداهما قد تكون غنيةً وأخرى فقيرةً‏.‏

الزوج الذي يستحقّ عليه القسم

8 - ذهب الفقهاء إلى أن القسم للزوجات مستحقّ على كلّ زوج - في الجملة - بلا فرق بين حرّ وعبد، وصحيح ومريض، وفحل وخصيّ ومجبوب، وبالغ ومراهق ومميّز يمكنه في الوطء، وعاقل ومجنون يؤمن من ضرره‏.‏‏.‏‏.‏ لأن القسم للصّحبة والمؤانسة وإزالة الوحشة وهي تتحقق من هؤلاء جميعاً‏.‏

لكن الفقهاء خصّوا قسم بعض الأزواج بالتفصيل، ومن ذلك‏:‏

أ - قسم الصبيّ لزوجاته‏:‏

9 - ذهب الفقهاء إلى أن الزوج الصبي المراهق أو المميّز الذي يمكنه الوطء يستحقّ عليه القسم‏;‏ لأنه لحقّ الزوجات، وحقوق العباد تتوجه على الصبيّ عند تقرّر السبب، وعلى وليّه إطافته على زوجاته، والإثم على الوليّ إن لم يطف به عليهن أو جار الصبيّ أو قصر وعلم بذلك‏.‏

وأما الزوج الصبيّ الصغير فلا يجب على وليّه الطواف به على زوجاته لعدم انتفاعهن بوطئه، وقال بعض الشافعية‏:‏ لو نام عند بعض زوجاته وطلبت الباقيات بياته عندهن لزم وليه إجابتهن لذلك‏.‏

ب - قسم الزوج المريض‏:‏

10 - ذهب الفقهاء إلى أن الزوج المريض يقسم بين زوجاته كالصحيح، لأن القسم للصّحبة والمؤانسة وذلك يحصل من المريض كما يحصل من الصحيح، وقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان يسأل في مرضه الذي مات فيه‏:‏ أين أنا غداً، أين أنا غداً‏؟‏»

واختلفوا فيما لو شق على المريض الطواف بنفسه على زوجاته‏:‏

فنقل ابن عابدين عن صاحب البحر قوله‏:‏ لم أر كيفية قسمه في مرضه حيث كان لا يقدر على التحوّل إلى بيت الأخرى، والظاهر أن المراد أنه إذا صح ذهب عند الأخرى بقدر ما أقام عند الأولى مريضاً، ونقل عن صاحب النهر قوله‏:‏ لا يخفى أنه إذا كان الاختيار في مقدار الدور إليه حال صحته ففي مرضه أولى، فإذا مكث عند الأولى مدةً أقام عند الثانية بقدرها‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ وهذا إذا أراد أن يجعل مدة إقامته دوراً حتى لا ينافي أنه لو أقام عند إحداهما شهراً هدر ما مضى‏.‏

وقال المالكية‏:‏ إذا لم يستطع الزوج الطواف بنفسه على زوجاته لشدة مرضه أقام عند من شاء الإقامة عندها، أي لرفقها به في تمريضه، لا لميله إليها فتمتنع الإقامة عندها، ثم إذا صح ابتدأ القسم‏.‏

وقال الشّربينيّ الخطيب‏:‏ من بات عند بعض نسوته بقرعة أو غيرها لزمه - ولو عنّيناً ومجبوباً ومريضاً - المبيت عند من بقي منهن لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقّه ساقط»‏.‏

«وكان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويطاف به عليهن في مرضه حتى رضين بتمريضه ببيت عائشة رضي الله عنها»، وفيه دليل على أن العذر والمرض لا يسقط القسم‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن شق على الزوج المريض القسم استأذن أزواجه أن يكون عند إحداهن، لما روت عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى نسائه فاجتمعن فقال‏:‏ «إنّي لا أستطيع أن أدور بينكن فإن رأيتن أن تأذن لي فأكون عند عائشة فعلتن فأذن له»، فإن لم يأذن له أن يقيم عند إحداهن أقام عند من تعيّنها القرعة أو اعتزلهن جميعاً إن أحب ذلك تعديلاً بينهن‏.‏

ج - قسم الزوج المجنون‏:‏

11 - ذهب الفقهاء إلى أن المجنون الذي أطبق جنونه لا قسم عليه‏;‏ لأنه غير مكلف، لكن القسم المستحق عليه لزوجاته يطالب به - في الجملة - وليّه، على التفصيل التالي‏:‏

قال المالكية‏:‏ يجب على وليّ المجنون إطافته على زوجتيه أو زوجاته، كما يجب عليه نفقتهن وكسوتهن‏;‏ لأنه من الأمور البدنية التي يتولى استيفاءها له أو التمكين حتى تستوفى منه كالقصاص، فهو من باب خطاب الوضع‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ لا يلزم الولي الطواف بالمجنون على زوجاته، أمن منه الضرر أم لا، إلا إن طولب بقضاء قسم وقع منه فيلزمه الطواف به عليهن قضاءً لحقّهن كقضاء الدين، وذلك إذا أمن ضرره، فإن لم يطالب فلا يلزمه ذلك‏;‏ لأن لهن التأخير إلى إفاقته لتتم المؤانسة، ويلزم الولي الطواف به إن كان الجماع ينفعه بقول أهل الخبرة، أو مال إليه، فإن ضره الجماع وجب على وليّه منعه منه، فإن تقطع الجنون وانضبط كيوم ويوم، فأيام الجنون كالغيبة فتطرح ويقسم أيام إفاقته، وإن لم ينضبط جنونه وأباته الوليّ في الجنون مع واحدة وأفاق في نوبة الأخرى قضى ما جرى في الجنون لنقصه‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ المجنون المأمون الذي له زوجتان فأكثر يطوف به وليّه وجوباً عليهن، لحصول الأنس به، فإن خيف منه لكونه غير مأمون فلا قسم عليه لأنه لا يحصل منه أنس لهن، فإن لم يعدل الوليّ في القسم ثم أفاق الزوج من جنونه قضى للمظلومة ما فاتها استدراكاً لظلامته، لأنه حقّ ثبت في ذمته فلزمه إيفاؤه حال الإفاقة كالمال‏.‏

الزوجة التي تستحقّ القسم

12 - يستحقّ القسم للزوجات المطيقات للوطء، مسلمات أو كتابيات أو مختلفات، حرائر أو إماء أو مختلفات، وإن امتنع الوطء شرعاً كمحرمة، وحائض ونفساء ومظاهر منها ومولىً منها، أو امتنع عادةً كرتقاء، أو امتنع طبعاً كمجنونة مأمونة، ولا فرق بين مريضة وصحيحة، وصغيرة يمكن وطؤها وكبيرة، وقسم الزوج لذوات الأعذار من الزوجات كما يقسم لغيرهن‏;‏ لأن الغرض من القسم الصّحبة والمؤانسة والسكن والإيواء والتحرّز عن التخصيص الموحش، وحاجتهن داعية إلى ذلك، والقسم من حقوق النّكاح ولا تفاوت بين الزوجات فيها‏;‏ لأن النّصوص الواردة بالعدل بين الزوجات والنهي عن الميل في القسم جاءت مطلقةً، ونقل ابن المنذر الإجماع على أن القسم بين المسلمة والذّمّية سواء‏;‏ ولأن القسم من حقوق الزوجية فاستوت فيه المسلمة والكتابية كالنفقة والسّكنى‏.‏

وانظر مصطلح ‏(‏رقّ ف /85‏)‏‏.‏

لكن القسم في بعض الزوجات فيه مزيد تفصيل ومن ذلك‏:‏

أ - القسم للمطلقة الرجعية‏:‏

13 - ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه ليس على الزوج أن يقسم لمطلقته الرجعية مع سائر زوجاته‏;‏ لأنها ليست زوجةً من كلّ وجه‏.‏

وذهب الحنفية إلى أن الزوج يقسم لمطلقته الرجعية مع غيرها من زوجاته وذلك إن قصد رجعتها، وإلا فلا‏.‏

ب - القسم للزوجة المعتدة من وطء شبهة‏:‏

14 - ذهب الشافعية إلى أن الزوجة المعتدة من وطء بشبهة لا يقسم لها الزوج‏;‏ لأن القسم للسكن والأنس والإيواء، وهي في عدتها لا يحلّ لزوجها الخلوة بها، بل يحرم‏.‏

واختلف الحنفية في القسم لها، فنقل ابن عابدين صورةً من هذا الخلاف في قوله‏:‏ قال في النهر‏:‏ وعندي أنه يجب - أي القسم - للموطوءة بشبه أخذاً من قولهم إنه لمجرد الإيناس ودفع الوحشة، واعترضه الحمويّ بأن الموطوءة بشبهة لا نفقة لها على زوجها في هذه العدة، ومعلوم أن القسم عبارة عن التسوية في البيتوتة والنفقة والسّكنى، وزاد بعض الفضلاء أنه يخاف من القسم لها الوقوع في الحرام‏;‏ لأنها معتدة للغير ويحرم عليه مسّها وتقبيلها، فلا يجب لها‏.‏

القسم للزوجة الجديدة

15 - اختلف الفقهاء في القسم للزوجة الجديدة لمن عنده زوجة أو زوجات غيرها، هل يقسم لها قسماً خاصّاً، أم تدخل في دور القسم كغيرها من الزوجات‏؟‏

فذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الزوجة الجديدة - حرةً كانت أو أمةً - تختصّ بسبع ليال بلا قضاء للباقيات إن كانت بكراً، وبثلاث ليال بلا قضاء إن كان ثيّباً، وذلك لحديث‏:‏ «للبكر سبع، وللثيّب ثلاث»، واختصت الزوجة الجديدة بذلك للأنس ولزوال الحشمة، ولهذا سوى الشرع بين الحرة والأمة، والمسلمة والكتابية في ذلك‏;‏ لأن ما يتعلق بالطبع لا يختلف بالرّقّ والحرّية ولا باختلاف الدّين، وزيد للبكر الجديدة‏;‏ لأن حياءها أكثر‏;‏ ولأنها لم تجرّب الرّجال فتحتاج إلى إمهال وجبر وتأنّ، أما الثيّب فإنها استحدثت الصّحبة فأكرمت بزيادة الوصلة وهي الثلاث‏.‏

واختصاص الزوجة الجديدة - بكراً أو ثيّباً - بهذا القسم هو حقّ لها على الصحيح عند المالكية، وهو واجب عند الشافعية، ومن السّنة عند الحنابلة‏.‏

ويستحبّ للزوج أن يخيِّر زوجته الجديدة إن كانت ثيّباً بين ثلاث بلا قضاء للزوجات الباقيات وبين سبع مع قضاء لهن، اقتداءً بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع زوجته أمّ سلمة رضي الله تعالى عنها حيث قال لها‏:‏ «إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت ثم درت» وفي لفظ‏:‏ «إن شئت أن أسبِّع لك، وأسبِّع لنسائي، وإن سبَّعت لك، سبَّعت لنسائي» أي بلا قضاء بالنّسبة للثلاث وإلا لقال‏:‏ ‏"‏وثلثت لنسائي ‏"‏ كما قال‏:‏ «وسبعت لنسائي»‏.‏

وإن تزوج امرأتين - بكرين كانتا أو ثيبتين أو بكراً وثيّباً - فزفتا إليه في ليلة واحدة‏.‏‏.‏

فقال الشافعية والحنابلة‏:‏ يكره ذلك‏;‏ لأنه لا يمكنه الجمع بينهما في إيفاء حقّهما وتستضرّ التي يؤخّر حقها وتستوحش‏.‏ ويقدّم أسبقهما دخولاً فيوفيها حق العقد‏;‏ لأن حقها سابق، ثم يعود إلى الثانية فيوفيها حق العقد‏;‏ لأن حقها واجب عليه ترك العمل به في مدة الأولى لأن حق الأولى عارضه ورجّح عليه، فإذا زال المعارض وجب العمل بالمقتضى‏.‏

ثم يبتدئ القسم بين زوجاته ليأتي بالواجب عليه من حقّ الدور، فإن أدخلتا عليه في وقت واحد قدم إحداهما بالقرعة‏;‏ لأنهما استوتا في سبب الاستحقاق والقرعة مرجّحة عند التساوي‏.‏

وإن زفت إليه امرأة في مدة حقّ عقد امرأة زفت إليه قبلها تمم للأولى حق عقدها لسبقها، ثم قضى حق عقد الثانية لزوال المعارض‏.‏ ولو زفت إليه جديدة وله زوجتان قد وفاهما حقهما، وفَّى الجديدة حقها واستأنف بعد ذلك القسم بين الجميع بالقرعة‏.‏

16 - وإن أراد من زفت إليه امرأتان معاً السفر بإحدى نسائه فأقرع بينهن فخرجت القرعة لإحدى الجديدتين سافر بها، ودخل حقّ العقد في قسم السفر‏;‏ لأنه نوع قسم يختصّ بها، فإذا قدم من سفره بدأ بالأخرى فوفاها حق العقد‏;‏ لأنه حقّ وجب لها ولم يؤدّه فلزمه قضاؤه كما لو لم يسافر بالأخرى معه، فإن قدم من سفره قبل مضيّ مدة ينقضي فيها حقّ الأولى تممه في الحضر وقضى للحاضرة حقها، فإن خرجت القرعة لغير الجديدتين وسافر بها قضى للجديدتين حقهما واحدةً بعد واحدة، يقدّم السابقة دخولاً إن دخلت عليه إحداهما قبل الأخرى، أو بقرعة إن دخلتا معاً، وإن سافر بجديدة وقديمة بقرعة أو رضاً تمم للجديدة حق العقد ثم قسم بينها وبين الأخرى على السواء‏.‏

وقيد المالكية في المشهور من مذهبهم حق الزوجة الجديدة - بكراً أو ثيّباً - في هذا القسم بما إذا تزوجها الرجل على غيرها، ومقابل المشهور عندهم أن الزوجة الجديدة لها هذا القسم مطلقاً‏.‏ تزوجها على غيرها أم لا‏.‏

واختلف المالكية فيما تقدم به إحدى الزوجتين الجديدتين إن زفتا إلى الزوج في ليلة واحدة‏:‏ فقال اللخميّ عن ابن عبد الحكم يقرع بينهما، وقبله عبد الحقّ، وفي أحد قولي مالك‏:‏ إن الحق للزوج فهو مخير دون قرعة، وقال ابن عرفة‏:‏ الأظهر أنه إن سبقت إحداهما بالدّعاء للبناء قدّمت، وإلا فسابقة العقد، وإن عقدتا معاً فالقرعة‏.‏

وذهب الحنفية إلى أنه لا حق للزوجة الجديدة في زيادة قسم تختصّ به، وقالوا‏:‏ البكر والثيّب والقديمة والجديدة سواء في القسم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وغايته القسم، ولإطلاق أحاديث النهي عن الجور في القسم‏;‏ ولأن القسم من حقوق النّكاح ولا تفاوت بين الزوجات في ذلك‏;‏ ولأن الوحشة في الزوجة القديمة متحقّق حيث أدخل عليها من يغيظها وهي في الجديدة متوهمة‏;‏ ولأن للقديمة زيادة حرمة بالخدمة، وإزالة الوحشة والنّفرة عند الجديدة تمكن بأن يقيم عندها السبع ثم يسبّع للباقيات ولم تنحصر في تخصيصها بالزّيادة‏.‏

بدء القسم وما يكون به

17 - اختلف الفقهاء في الوقت الذي يبدأ فيه الزوج القسم بين زوجاته، وفيما يكون به الابتداء‏:‏

قال الحنفية والمالكية وهو مقابل الصحيح عند الشافعية‏:‏ الرأي في البداءة في القسم إلى الزوج‏.‏

وأضاف المالكية‏:‏ وندب الابتداء في القسم بالليل‏;‏ لأنه وقت الإيواء للزوجات، ويقيم القادم من سفر نهاراً عند أيتهن أحب ولا يحسب، ويستأنف القسم بالليل لأنه المقصود، ويستحبّ أن ينزل عند التي خرج من عندها ليكمل لها يومها‏.‏

وذهب الشافعية - في الصحيح عندهم - والحنابلة إلى وجوب القرعة على الزوج بين الزوجات للابتداء إن تنازعن فيه، وليس له إذا أراد الشّروع في القسم البداءة بإحداهن إلا بقرعة أو برضاهن‏;‏ لأن البداءة بإحداهن تفضيل لها على غيرها، والتسوية بينهن واجبة، ولأنهن متساويات في الحقّ ولا يمكن الجمع بينهن فوجب المصير إلى القرعة إن لم يرضين، فيبدأ بمن خرجت قرعتها، فإذا مضت نوبتها أقرع بين الباقيات، ثم بين الأخريين، فإذا تمت النوبة راعى الترتيب ولا حاجة إلى إعادة القرعة، بخلاف ما إذا بدأ بلا قرعة فإنه يقرع بين الباقيات، فإذا تمت النوبة أقرع للابتداء‏.‏

وقالوا‏:‏ للزوج أن يرتّب القسم على ليلة ويوم قبلها أو بعدها‏;‏ لأن المقصود حاصل بكلّ ولا يتفاوت، لكن تقديم الليل أولى‏;‏ لأن النهار تابع لليل وللخروج من خلاف من عينه‏.‏

الأصل في القسم

18 - الأصل في القسم وعماده الليل، وذلك باتّفاق الفقهاء‏;‏ لأنهم قالوا‏:‏ التسوية الواجبة في القسم تكون في البيتوتة‏;‏ ولأن الليل للسكن والإيواء، يأوي فيه الرجل إلى منزله، ويسكن إلى أهله، وينام في فراشه مع زوجته عادةً، والنهار وقت العمل لكسب الرّزق والانتشار في الأرض طلباً للمعاش، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً‏}‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً‏}‏‏.‏

وفصل الشافعية والحنابلة، ووافقهم بعض الحنفية، فقالوا‏:‏ الأصل في القسم لمن عمله الليل وكان النهار سكنه كالحارس ونحوه يكون النهار‏;‏ لأنه وقت سكونه، وأما الليل فإنه وقت عمله، والأصل في القسم لمسافر وقت نزوله‏;‏ لأنه وقت خلوته ليلاً كان أو نهاراً، قل أو كثر، وإن تفاوت حصل لواحدة نصف يوم ولأخرى ربع يوم، فلو كانت خلوته وقت السير دون وقت النّزول - كأن كان بمحفة وحالة النّزول يكون مع الجماعة في نحو خيمة - كان هو وقت القسم، والأصل في القسم لمجنون وقت إفاقته، أو كما قال الشافعيّ‏:‏ إنما القسم على المبيت كيف كان المبيت‏.‏

والنهار يدخل في القسم تبعاً لليل، لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي»، وإنما قبض النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاراً، ويتبع اليوم، الليلة الماضية أي التي سبقت ذلك اليوم، وإن أحب الزوج أن يجعل النهار في القسم لزوجاته مضافاً إلى الليل الذي بعده جاز له ذلك‏;‏ لأنه لا يتفاوت، والغرض العدل بين الزوجات وهو حاصل بذلك‏.‏

مدة القسم

19 - صرح الفقهاء بأن أقل نوب القسم لمن عمله نهاراً ليلة، فلا يجوز ببعضها لما في التبعيض من تشويش العيش وتنغيصه، إلا أن ترضى الزوجات بذلك‏.‏

واختلفوا في أكثر مدة القسم، أي أكثر مقدار النوبة الواحدة من القسم، على أقوال‏:‏

فذهب المالكية والحنابلة في المعتمد عندهم إلى أن القسم بين الزوجات يكون ليلةً وليلةً ولا يزيد على ذلك إلا برضاهن، فإن رضين بالزّيادة على ذلك جاز‏;‏ لأن الحق لهن لا يعدوهن، واستدلّوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قسم ليلةً وليلةً ولأن التسوية بينهن واجبة، وإنما جوّزت البداءة بواحدة لتعذّر الجمع، فإذا بات عند واحدة تعينت الليلة الثانية حقّاً للأخرى فلم يجز جعلها للأولى بغير رضاها‏;‏ ولأن الزوج إن قسم ليلتين وليلتين أو أكثر كان في ذلك تأخير لحقّ من لها الليلة الثانية، وتأخير حقوق بعضهن لا يجوز بغير رضاهن‏;‏ ولأنه إذا كان له أربع نسوة فجعل لكلّ واحدة منهن ثلاثاً حصل تأخير الرابعة تسع ليال وذلك كثير فلم يجز كما لو كان له امرأتان فأراد أن يجعل لكلّ واحدة تسعاً‏;‏ ولأن للتأخير آفات فلا يجوز مع إمكان التعجيل بغير رضا المستحقّ كتأخير الدين الحالّ‏.‏

ونقل الحطاب عن الجواهر أن الزوج لا يزيد في القسم على ليلة إلا أن ترضى الزوجات ويرضى بالزّيادة، أو يكن في بلاد متباعدة فيقسم الجمعة أو الشهر على حسب ما يمكنه بحيث لا يناله ضرر لقلة المدة، ونقل عن اللخميّ أن الرجل إن كانت له زوجتان ببلدين جاز قسمه جمعةً وشهراً وشهرين على قدر بعد الموضعين مما لا يضرّ به، ولا يقيم عند إحداهن إلا لتجرٍ أو ضيعة‏.‏

وذهب الحنفية وهو وجه شاذّ عند الشافعية إلى أن تحديد الدور إلى الزوج إن شاء حدده بيوم أو يومين أو أكثر، وله الخيار في ذلك‏;‏ لأن المستحق عليه التسوية وقد وجدت‏.‏ لكن الكمال بن الهمام عقب على ذلك بقوله‏:‏ لو أراد أن يدور سنةً سنةً ما يظنّ إطلاق ذلك له، بل ينبغي أن لا يطلق له مقدار مدة الإيلاء وهو أربعة أشهر، وإذا كان وجوبه للتأنيس ودفع الوحشة وجب أن تعتبر المدة القريبة وأظنّ أكثر من جمعة مضارةً إلا أن ترضيا به‏.‏

وقال الحصكفيّ والتمرتاشي نقلاً عن الخلاصة‏:‏ يقيم عند كلّ واحدة منهن يوماً وليلةً، وإن شاء ثلاثة أيام ولياليها ولا يقيم عند إحداهن أكثر إلا بإذن الأخرى‏.‏

وذهب الشافعية في المذهب عندهم والقاضي من الحنابلة إلى أن الأولى للزوج أن يقسم بين زوجاته ليلةً ليلةً‏.‏‏.‏ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم‏;‏ ولأن ذلك أقرب لعهدهن به، وأدنى إلى التسوية في إيفاء الحقوق، فإن قسم ليلتين أو ثلاثاً جاز‏;‏ لأنه في حدّ القليل، وإن زاد على الثلاث حرم ولم يجز من غير رضاهن، لأن فيه تغريراً بحقوقهن‏.‏

ومقابل المذهب عند الشافعية أنه تكره الزّيادة على الثلاث‏.‏

الخروج في نوبة زوجة والدّخول على غيرها

20 - اتفق الفقهاء على أن من له أكثر من زوجة عليه أن يوفي كل واحدة منهن قسمها دون نقص أو تأخير، لأن هذا من العدل الواجب عليه في القسم بينهن، ولكنهم اختلفوا في خروج الزوج في نوبة إحدى زوجاته - ليلاً أو نهاراً - ودخوله على غيرها كذلك ليلاً أو نهاراً، ولهم في ذلك تفصيل على النحو التالي‏:‏

قال الشافعية والحنابلة‏:‏ إن خرج الزوج الذي عماد قسمه الليل من عند بعض نسائه في زمانها، فإن كان ذلك في النهار أو أول الليل أو آخره مما جرت العادة بالانتشار فيه والخروج إلى الصلاة جاز، وإن خرج في غير ذلك من الليل ولم يلبث أن عاد لم يقض لمن خرج من عندها هذا الوقت للمسامحة به‏;‏ ولأنه لا فائدة في قضائه لقصره، وإن طال زمن خروجه قضاه، سواء أكان لعذر أم لغير عذر‏;‏ لأنه مع طول الزمن لا يسمح به عادةً، فيكون حقّها قد فات بغيبته عنها، وحقّ الآدميّ لا يسقط ولو بعذر إلا بإسقاط صاحبه‏.‏‏.‏‏.‏ فوجب القضاء‏.‏

وليس لهذا الزوج دخول في نوبة زوجة على غيرها ليلاً، لما فيه من إبطال حقّ صاحبة النوبة، إلا لضرورة كمرضها المخوف وشدة الطلق وخوف النهب والحرق، وحينئذ إن طال مكثه عرفاً قضى لصاحبة النوبة من نوبة المدخول عليها مثل مكثه، وإن لم يطل مكثه فلا يقضي، وإذا تعدى بالدّخول قضى إن طال مكثه وإلا فلا قضاء، وأثم‏.‏

وإن دخل الزوج في نوبة إحدى زوجاته على غيرها نهاراً فإنه يجوز لحاجة‏;‏ لأنه يتسامح فيه ما لا يتسامح في الليل، فيدخل لوضع متاع ونحوه كتسليم نفقة وتعرّف خبر وعيادة‏.‏‏.‏ لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها»، فإذا دخل لشيء من ذلك لم يطل مكثه عن قدر الحاجة ولم يجامع‏.‏

قال الشافعية‏:‏ ينبغي أن لا يطول مكثه، أي يجوز له تطويل المكث لكنه خلاف الأولى، وذهب بعضهم إلى وجوب عدم تطويل المكث لأن الزائد على الحاجة كابتداء دخول لغيرها وهو حرام، والصحيح أنه لا يقضي إذا دخل لحاجة وإن طال الزمن‏;‏ لأن النهار تابع مع وجود الحاجة‏.‏ وفي مقابل الصحيح يجب قضاء المدة - إن طالت - دون الجماع، ووفق بعضهم بين القولين بحمل الأول على ما إذا طالت بقدر الحاجة، والثاني على ما إذا طالت فوق الحاجة‏.‏

والصحيح - عندهم - أيضاً أن له ما سوى الوطء من استمتاع‏.‏‏.‏ للحديث السابق‏;‏ ولأن النهار تابع، والقول الثاني‏:‏ لا يجوز، أما الوطء فإنه لا يجوز لغير صاحبة النوبة، سواء أكان ليلاً أم نهاراً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن أطال المقام عند غير صاحبة النوبة قضاه، وإن استمتع بها بما دون الفرج ففيه وجهان‏:‏ أحدهما يجوز لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، والثاني لا يجوز لأنه يحصل لها به السكن، وإن دخل عليها فجامعها في الزمن اليسير - ليلاً أو نهاراً - ففيه وجهان‏:‏ أحدهما لا يلزمه قضاؤه، لأن الوطء لا يستحقّ في القسم، والزمن اليسير لا يقضى‏.‏ والثاني‏:‏ يلزمه أن يقضيه وهو أن يدخل على المظلومة في ليلة المجامعة فيجامعها فيعدل بينهما‏.‏‏.‏ ولأن اليسير مع الجماع يحصل به السكن فأشبه الكثير‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ يلزم الزوج التسوية بين زوجاته في الليل، حتى لو جاء للأولى بعد الغروب وللثانية بعد العشاء فقد ترك القسم، ولا يجامعها في غير نوبتها، ولا يدخل عليها إلا لعيادتها، ولو اشتد مرضها - ففي الجوهرة - لا بأس أن يقيم عندها حتى تشفى أو تموت، يعني إذا لم يكن عندها من يؤنسها‏.‏

والنوبة لا تمنع أن يذهب إلى الأخرى لينظر في حاجتها ويمهّد أمورها، وفي صحيح مسلم

«أنهن كن يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها»، والذي يظهر أن هذا جائز برضاء صاحبة النوبة إذ قد تتضيق لذلك‏.‏

وقال المالكية‏:‏ لا يدخل الزوج في يوم إحدى زوجاته على ضرتها، أي يمنع، إلا لحاجة غير الاستمتاع كمناولة ثوب ونحوه فيجوز له ولو أمكنه الاستنابة فيها على الأشبه بالمذهب‏.‏ ولمالك لا بد من عسر الاستنابة فيها، وعمم ابن ناجي دخوله لحاجة في النهار والليل مخالفاً لشيخه في تخصيص الجواز بالنهار، وللزوج وضع ثيابه عند واحدة دون الأخرى لغير ميل ولا إضرار، ولا يقيم عند من دخل عندها إلا لعذر لا بد منه، وجاز في يومها وطء ضرتها بإذنها، ويجوز من غير حاجة السلام بالباب من خارجه في غير يومها، وتفقّد شأنها من غير دخول إليها ولا جلوس عندها على المذهب، ولا بأس بأكل ما بعثت إليه بالباب لا في بيت الأخرى لما فيه من أذيتها‏.‏

ذهاب الزوج إلى زوجاته ودعوتهن إليه

21 - اتفق الفقهاء - في الجملة - على أن الأولى في حالة تعدّد الزوجات أن يكون لكلّ منهن مسكن يأتيها الزوج فيه اقتداءً بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث كان يقسم لنسائه في بيوتهن‏;‏ ولأنه أصون وأستر حتى لا تخرج النّساء من بيوتهن، ويجوز للزوج - إن انفرد بمسكن - أن يدعو إليه كل واحدة من زوجاته في ليلتها ليوفيها حقها من القسم‏.‏

لكن للفقهاء فيما وراء ذلك تفصيلاً يحسن عرضه‏:‏

قال الحنفية‏:‏ لو مرض الزوج في بيته دعا كل واحدة في نوبتها‏;‏ لأنه لو كان صحيحاً وأراد ذلك ينبغي أن يقبل منه‏.‏

وقال المالكية‏:‏ جاز للزوج برضاء زوجاته طلبه منهن الإتيان للبيات معه بمحلّه المختصّ به، ولا ينبغي له هذا إذ السّنة دورانه هو عليهن في بيوتهن « لفعله صلى الله عليه وسلم»، فإن رضي بعضهن لم يلزم باقيهن، بل نص بعض المالكية على أنه يقضى على الزوج أن يدور عليهن في بيوتهن ولا يأتينه إلا أن يرضين‏.‏

وقال الشافعية‏:‏ إن لم ينفرد الزوج بمسكن وأراد القسم دار عليهن في بيوتهن توفيةً لحقّهن، وإن انفرد بمسكن فالأفضل المضيّ إليهن صوناً لهن، وله دعاؤهن بمسكنه، وعليهن الإجابة‏;‏ لأن ذلك حقّه، فمن امتنعت وقد لاق مسكنه بها فيما يظهر فهي ناشزة إلا ذات خفر - قال الشبراملسي‏:‏ أي شرف - لم تعتد البروز فيذهب لها كما قال الماورديّ واستحسنه الأذرعيّ وغيره، وإلا نحو معذورة بمرض فيذهب أو يرسل لها مركباً إن أطاقت مع ما يقيها من نحو مطر‏.‏

والأصحّ تحريم ذهابه إلى بعضهن ودعاء غيرهن إلى مسكنه لما فيه من الإيحاش، ولما في تفضيل بعضهن على بعض، من ترك العدل، إلا لغرض كقرب مسكن من مضى إليها، أو خوف عليها لنحو شباب دون غيرها فلا يحرم‏.‏ والضابط أن لا يظهر منه التفضيل والتخصيص، ويحرم أن يقيم بمسكن واحدة ويدعو الباقيات إليه بغير رضاهن، ولو لم تكن هي فيه حال دعائهن، فإن أجبن فلها المنع، وإن كان البيت ملك الزوج لأن حق السّكنى فيه لها‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إن اتخذ الزوج لنفسه مسكناً غير مساكن زوجاته يدعو إليه كل واحدة في ليلتها ويومها ويخليه من ضرتها جاز له ذلك، لأن له نقل زوجته حيث شاء بمسكن يليق بها، وله دعاء بعض الزوجات إلى مسكنه والذهاب إلى مسكن غيرهن من الزوجات‏;‏ لأن له أن يسكن كل واحدة منهن حيث شاء، وإن امتنعت من دعاها عن إجابته وكان ما دعاها إليه مسكن مثلها سقط حقّها من القسم لنشوزها، وإن أقام عند واحدة ودعا الباقيات إلى بيتها لم يجب عليهن الإجابة لما بينهن من غيرة والاجتماع يزيدها‏.‏